لماذا سُمِّي صلى الله عليه وسلم (محمداً) كما في آية { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} سورة الفتح (29).
كما سُمِّي صلى الله عليه وسلم (أحمد) في الآية (6) بسورة الصف عن سيدنا عيسى قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فكيف له صلى الله عليه وسلم اسمان اثنان مع أن للمرء عادةً اسم واحد ويستحيل أن يكون الواحد اثنان، إلاَّ طبعاً في الصفات فهي تتعدد لشخص واحد.
أما بالأسماء فيحمل المرء اسماً واحداً، ولا يكون مثلاً مازن هو عمر، إلا أنهما اسمان لشخصين اثنين. أنبئونا بالحكمة أثابكم الله.
وبالمناسبة فقد ورد أيضاً لسيدنا عيسى اسم ثانٍ ألا وهو (السيد المسيح) و (عيسى) عليه السلام.
فما معنى هذه الاسمين أيضاً؟
جواب القضية :
إن من يمعن النظر في آيات الذكر الحكيم وفيما يتعلق في بحثنا هذا سوف يجد أنه قد تتعدد الأسماء لمسمَّى واحد حسب موضع ذلك المسمَّى وحسب الظرف و الحال الذي هو فيه .
كأن تقول عن إنسان ما أنه (أب) في بيته بالنسبة لأبنائه وهو بنفس الوقت (المعلم) في مدرسته بالنسبة لتلاميذه، وهو (عم) بالنسبة لأبناء أخيه، و(خال) أيضاً... فتلك الأسماء جميعها انطبقت على شخص واحد وفي آن واحد ، ولكن لكلِّ مقام مقال، فلا يمكن أن ننادي الأستاذ في مدرسته أو القائد في فرقته العسكرية بالاسم الذي يطلق عليه في بيته ألا هو الأب، أو أن نقول عن مقاتل في ساحات الوغى يقارع الأعداء أنه عمٌّ لزيد أو خالٌ لعمر. بل اسمه في هذا الميدان وهذا الوقت (فارس بطل مغوار).
وهكذا فالله تعالى حينما يخاطب رسله الكرام صلوات الله عليهم، أو يتحدث عنهم في كتابه العزيز فإنما يتحدث عنهم بأسماء حركية حسب القصة المراد ذكرها لنا وحسب العمل الذي يقومون به.
فمثلاً : كان لسيدنا يعقوب في القرآن اسمٌ ثانٍ ألا وهو (إسرائيل)، ولكلٍّ من الاسمين معنى خاصاً به.
فيعقوب: يعني أنه تعقب سير آبائه من قبل (إسحاق وإبراهيم) واقتفى أثرهم فنال النبوة كما نالوها {تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا..} سورة الأنعام (83).
حيث سلكوا كما سلك سيدنا إبراهيم فنالوا النبوة كما نال. فكلمة (يعقوب) إذاً تعني إذاً أنه عليه السلام تعقب سير آبائه.
أما اسم (إسرائيل) فورد حينما أراد الله تعالى تبيان أنه (إسرائيل) أبو الأسرة العالية التي ضمَّت الأنبياء والمرشدين (الأسباط) من يوسف وأخوته، إذ قال جل شأنه في سورة مريم (52): {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوحٍ ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل..}: حيث كان أبناؤه جميعهم مشهورون بالإيمان والتقى والصلاح .
إذن الأسماء في القرآن له مدلولات تكون متوافقة والصفة التي اتصف بها المسمى.
فمثلاً سيدنا موسى كان شديداً عظيم الثورة في الحق، والأدلة القرآنية التي تبيِّن حدته ومضاءه بالحق كثيرة جداً، منها موقفه أمام فرعون إله مصر المزعوم وهو يسفِّه إمبراطوريته وإنسانيته المزيفة أمام الخاصة من حاشيته فيجيبه فرعون وهو بسلطانه، وذلك فيما ورد في سورة الإسراء (101): {إني لأظنك يا موسى مسحوراً}.
فيجيبه موسى صلوات الله عليه حاد الطبع للحق: {وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً}: أي فارغ الرأس لا تفكير عندك (مجنون).
فسيدنا موسى بثورته العظيمة وموسويته الحقّة لم يعبأ بفرعون وجنده وجبروته وطغيانه .
وكذلك دل اسم سيدنا نوح على ما خالط نفسه من حزن وأسى وبكاء على قومه لعدم إيمانهم، إذ لبث في قومه يدعوهم تسعمائة وخمسون سنة ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً، ولم يزدادوا إلاَّ كفراً وطغياناً، إذ صمّوا عن دعاء رسولهم وأصروا على تكذيبه واستكبروا استكباراً.
فكم كان حزن ذلك الرسول الكريم عليهم عظيماً، فمن شدة بكائه سمي (نوحاً). ولم يطلب التخفيف عنهم بدعوته إلا حين أعلمه الله أنه لن يؤمن من قومه إلاَّ من قد آمن.
ولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً أسماء عدة بيَّنها تعالى في محكم التنزيل، وكلها ذات معانٍ عالية، ولكن بكلِّ موقع كان له صلى الله عليه وسلم الاسم المناسب والمنطبق مع حاله النفسي.
فلقد سمَّاه تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام بأحمد، قال تعالى في سورة الصف (6):
{وإذ قال عيسى ابن مريم ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} أي: أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أحمد الخلق لله، وبذلك سما وعلا فكان أسبق العالمين وسيد المرسلين، فقد حمد الله حمداً لم يسبقه به نبي مرسل ولا ملكٌ مقرَّب، بل ولا أحد في العالمين، فكان أحمد الخلق وأعلاهم وأرقاهم وأسماهم.
إذن كلمة (أحمد) صيغة من صيغ التفضيل لكمة (حامد).
فالرسل جميعهم حامدين لله عزَّ وجل على فضله وكرمه، وكان صلى الله عليه وسلم أحمدهم له، إذ أقبل على الله إقبالاً سبق به العالمين فكان أقربهم من الله منزلةً وأشدهم لله حمداً.
أما كلمة (محمد) فذلك هو الاسم الذي سُمِّي به صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ أهله (ولكلِّ مسمّى من اسمه نصيب)، وقد كان نصيبه صلى الله عليه وسلم من اسمه النصيب التام المطلق. فشهد له سبحانه وتعالى بذلك حين قال في سورة الفتح (29):
{محمد رسول الله والذين معه..}، فهو عليه الصلاة والسلام صاحب الكمال المطلق والصفات الحميدة التي اشتقها من الله، فكان كامل الأوصاف خُلقاً وخَلْقاً. فهو شجاع الذي لم يجبن قط، والأمين الذي لم يخن، والطاهر الذي لم تتلوث نفسه، والكريم الذي لم يبخل، والرءوف الرحيم الذي لم يقسُ، والعليم العادل البر...
فإن فضل رسول الله ليس له حدٌّ فيعرب عنه ناطق بفم
وكذلك السيد المسيح سمَّاه تعالى بهذا الاسم دلالةً على أنه صلى الله عليه وسلم سيمسح الكفر من على وجه البسيطة في آخر الزمان وحتى انتهاء الدوران، قال تعالى مشيراً إلى ذلك:
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ..} سورة آل عمران (55).
فسيدنا عيسى عليه السلام جاء قديماً لبني إسرائيل رسولاً نبياً ليبلِّغهم كلام الله ورسالاته، فاصطدم بعلمائهم من الفريسيين، وبعد أن رأوا مخالفته لأقوالهم راحوا يقاومونه حتى تطالوا وقرروا قتله فأنجاه الله من كيدهم بأن توفاه وفاة النوم وآواه إلى ربوة ذات قرار ومعين لقوله تعالى في سورة المؤمنون (50):
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}: وأرجاه تعالى إلى زمن يكون فيه سلطاناً عظيماً يهدُّ فيه عروش الكفر هدّاً ويقيم الإسلام أبداً.
فآية {وإذ قال الله يا عيسى إني متوفيك}: أي وفاة النوم {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها}.
{ورافعك إلي}: بنيتك العالية. إلاَّ أن الرفعة لن تكون الآن، إذ أن قومك أبوا أن يؤمنوا لك وأصروا على كفرهم، فما استحقوا إنعامي بك عليهم، لذلك فإني ملق عليك سنة من النوم الآن ورافعك بعد هذا النوم الذي يمتد قروناً بالأعمال الكبرى التي سأرزقك بها، وبها إسلام العالم كله على يديك وذلك بنيتك العالية.
{ومطهرك من الذين كفروا}: عندها سأزيل دول الكفر ولن تقوم لهم قائمة بعدها أبداً إلى يوم القيامة.
{وجاعل الذين اتبعوك}: سوف أجعل الذين يتبعونك عندها {فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}: عندها تكون وجيهاً في الدنيا والآخرة كما ذكر تعالى في سورة آل عمران الآية (45-46):
{إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}.
فالآية تبيِّن أن السيد المسيح سيكون وجيهاً في الدنيا وفي الآخرة، فإذا كانت وجاهة الآخرة لا ريب فيها محققة فوجاهة الدنيا لم تحصل له بعد.
ففي فترة قدومه الأولى لم يكن الذين معه يتجاوزون الأحد عشر شخصاً، لذلك فتلك الوجاهة هي التي ستكون له عند عودته ثانيةً، فيؤمن به كل من بقي حياً تقريباً.
فالسيد المسيح عليه الصلاة والسلام سيأتي على سحابة من المجد، وهي شرح الآية {وجيهاً في الدنيا}. فحتماً سيكون الملك العالمي عند ظهوره من المغارة التي ألقى تعالى عليه النوم فيها، لقوله الكريم: {وآويناه وأمه إلى ربوةٍ ذات قرار ومعين}.
والآية الثانية بقضية تكليمه بالمهد تعتبر بحق معجزة. أما أن يكلِّم الناس كهلاً فليست بمعجزة، إلا إذا غاب حيناً من الدهر يتجاوز أضعاف مضاعفة من عمر الإنسان الوسطي، ثم يعود ليكلِّم الناس بنفس العمر كهلاً.
فمجيئه بعد عشرين قرناً تقريباً أعظم معجزة وهو في نفس السن الذي توفاه الله به مما سبق ومن خلال الأدلة التي بيَّناها والمستنبطة من آيات الذكر الحكيم والتي تؤكد عودة سيدنا عيسى المسيح (وما أكثر الأدلة على ذلك في القرآن الكريم) فإن حتمية مجيئه عليه السلام مرة أخرى في آخر الزمان ووقوع ما تقدَّم ذكره دلَّ عليها اسمه الشريف (عيسى) أي حتماً سيأتي ويزيل الكفر. فكلمة (عسى) تحتمل وقوع حدث ما، أو عدم وقوعه. أما كلمة (عيسى) التي سمّاه الله تعالى بها عليه السلام، لا تحتمل الوجه الآخر (أي عدم الوقوع)، فهو حتماً سيتحقق الاسم الثاني ألا وهو (المسيح) ماسح الكفر والطغيان والشقاء والآلام والأحزان والحروب والضلال حتى يوم القيامة، فلن تقوم للكفر قائمة، بل يمتد الإيمان والسلام حتى نهاية الدوران.. طوبى لمولود زمانه صلى الله عليه وسلم.
نُقل هذا الموضوع من علوم وأبحاث
العلامة العربي الكبير محمد أمين شيخو
www.rchss.com